تطوير ثقافة الإستقالة / عبدالرحمن الطالب بوبكر الولاتي
إن ثقافة تقديم الإستقالة تُعد من الأمور الحضارية والديمقراطية المتقدمة، فهل وصلنا نحن إلى مستوى حضاري ديمقراطي يؤهلنا إلى تقديم الاستقالة بعد الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة؟ الإجابة بالتأكيد هي: لا، لم نصل إلى المستوى الحضاري والديمقراطي الذي يؤهلنا إلى تقديم الاستقالة بعد الفشل .
هنا ربما يتبادر الى أذهاننا سؤال بريء أو غير بريء عما يمنع المسؤول الموريتاني النزيه غير القادر على أداء مهامه من تقديم استقالته ؟ أليست الاستقالة جزءاً من العمل الديمقراطي ؟ أم أن الديمقراطية لا يفهمها المسؤول الموريتاني إلا لمجرد كونها امتيازاتٍ وأموالا وعقوداً وصفقات يستحوذ عليها هو وحزبه الذي ينتمي إليه وأفراد عائلته ؟
وعندما ننظر لمجتمعنا الموريتاني وتحديداً انواكشوط نجد أن ثقافة الاستقالة معدومة إلا اذا كانت ستؤدي لمكان افضل، وقتها قد نجد الاستقالات.
من النادر ان يقر أي مسؤول بالقصور او الخطأ في عمله وأن يقدم استقالته بناء على هذا القصور لأن الاعتراف بالخطأ والاعتذار بالاستقالة ثقافة ليست موجودة لدينا.
ثقافة الاعتذار والاستقالة اليوم عادية جدا، فليس أمرا مستغرباً مثلا أن يخرج وزير ويعلن الاستقالة من منصبه لأنه لم يتمكن من إنجاز المهمة التي أتى من أجلها، او لم يستطع تنفيذ الخطط التي وضعها ضمن استراتيجية وزارته أو مؤسسته،..، وليس في هذا أي عيب او نقصان من مكانته او شأنه، فليس بالضرورة أن كل من يتولى منصبا هو أهل له، أو لديه من الامكانات والقدرات ما تؤهله للقيام بالمهام الموكلة إليه، والشخص نفسه الذي لم يستطع إنجاز هذه المهام في هذا المنصب، ليس مستبعدا ان يكون مبدعا في مجال آخر، او منصب جديد في قطاع هو أقرب اليه.
عندما يحصل الشخص على المنصب نجده يتشبث بهذا المنصب لأطول مدة ممكنة ولا يبعده عن منصبه الا تغييرات عليا أو تقاعد محتوم وفي مرات نادرة تكون الاستقالة هي فك الارتباط بين الشخص ومنصبه. الاستقالة أو طلب الإعفاء هو من الفوارق الفردية بين المنتمين للعالم المتقدم والعالم الثالث في كل شيء سواء كان في الأمور الشخصية أو العملية، لهذا يدرب العالم المتقدم النشء على ثقافة الاستقالة لأنها أمر إيجابي، يفعل العكس أفراد العالم الثالث لأنهم يعتبرونها نوعاً من الهروب أو الانهزامية، ولهذا تختلف درجة الإنتاجية بين العالمين وكذلك حجم الطموح عند الشباب.
الاستقالة في العالم تحدث إذا ما أخفق المسؤول في أبسط الأمور كتعبير عن الاعتراف بالتقصير وهذه من الفضيلة، الاستقالة يفعلها النجباء ومن يعلمون أنهم يستطيعون الإنتاج في مواقع آخرى، من لا يعترف بثقافة الاستقالة هو من يريد الاستمرار في إخفاقاته ولا يهتم بنتائجه من باب الإنانية لكي يحظى بوهج المنصب أو للتحكم بالطرف الآخر كالزوجة مثلاً، ولهذا أمر الله سبحانه الرجل بعدم ترك الزوجة كالمعلقة إذا لم تطب العشرة بينهما، كذلك من لا يستطيع الاستقالة هو على يقين بأنه لن يجد أي فرصة للنجاح والتقدم ولهذا هو يتمسك بالوضع مهما كانت الظروف.
لابد أن ننمي ثقافة الاستقالة عند المسؤولين قبل أبنائنا وبناتنا لأنها نوع من أنواع التطور في التعامل تأتي بكل مفيد وتفتح الباب للمنافسة واحترام النفس والآخرين، هي ثقافة تؤسس منذ الصغر ويشجعها المجتمع أو يستنكرها مع العلم أن فوائد ممارستها جمة وعدم الاعتراف بها أو استنكارها له مصائب كثيرة وخطيرة، لهذا لابد أن نعيد النظر في ثقافة الاستقالة كنوع من التقدم الذي ينشده كل ذي قلب وعقل وبهذا تتحول المجتمعات حتى من العالم التاسع للأول قولاً وفعلاً.
عزيزي المواطن.. الاستقالة قد لا تكون بالضرورة بسبب فشل ما أو ارتكاب أخطاء، فعلى سبيل المثال: رئيس وزراء نيوزيلندا "جون كي" قدم استقالته لأسباب عائلية بحتة بعد ثماني سنوات في منصبه، في قرار لم يكن منتظراً لرئيس الحكومة الذي كان يتمتع بشعبية واسعة في بلاده. لقد قال في كلمة مؤثرة خلال المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه استقالته "إن القادة الجيدين يعرفون متى يجب عليهم الرحيل، وقد حان الوقت بالنسبة لي للقيام بذلك".
استقال رئيس وزراء أرمينيا فى 8 سبتمبر 2016، وعلل استقالته وقتها بأن بلاده تحتاج إلى سياسات اقتصادية جديدة من أجل إنقاذها من حالة الركود، وهذا نموذج يدعو للاحترام لأنه لم يقبل أن يعرض بلاده للخطر وهو لا يملك حلولا لأزمتها الاقتصادية فاستقال ليفسح المجال لمن هو صاحب خبرة ورؤية لتخرج بلاده من عثرتها بدلا من التجارب الفاشلة وادعاء الحكمة والخبرة. ثقافة الاستقالة ليست عيبا أو تقليلا من شأن صاحبها لكنها فضيلة الاعتراف بالفشل أو التقصير أو عدم القدرة، وهى تحسب لصاحبها وتضيف إليه قدرا كبيرا من الاحترام فى عيون الآخرين طالما لم يستقل وهو متهم فى قضية مخلة بالشرف أو بمقتضيات وظيفته.
السؤال: أين المسؤولون في موريتانيا من هذه النماذج الحضارية؟.
ومن وجهة نظري المتواضعة استطيع أن نعرف الاستقالة في الدول الديمقراطية على أنها ثقافة تحمل المسؤولية، وهي ثقافة ليست فقط غائبة وغير معروفة ومفهومة في مجتمعاتنا، بل تقابل بالاستهزاء، باعتبارها هزيمة وانسحاب لا تليق بالفرسان، واذا لم يكن الوزير أو المسؤول (عندنا) فارساً، فمن سيكون غيره. وتصور من جهة اخرى على انها خيانة للرئيس أو رئيس وزراءه، لانها قد تتخذ ذريعة على سوء ادارته، لان اختار من اعضاء حزبه او الاقربين وترك الوطن بطوله وعرضه، وتقف (نظرية المؤامرة) بالمرصاد لتحليل دوافع الاستقالة.
الاستقالة والاسراع بتقديمها تعني أولاً الاعتراف بالخطأ المهني، وهذا يعني أن الوزير أو المسؤول أو...... الخ يعترف بضعف متابعته للمسوؤلين الأدنى، وعدم نجاحه بأختيار من هو الاصلح للمركز الوظيفي، وهي تهدف إلى اعلاء شأن قيمة المسؤولية الأدبية والالتزام الاخلاقي للموقع الوظيفي، الاستقالة وتحمل المسؤولية هما عمل شجاع، وسيؤدي شيوع ثقافة الاستقالة إلى انتشار وتقبل مفهوم تحمل المسؤولية والمحاسبة والمراقبة.
إن ثقافة الاستقالة أمر معروف وشائع ومفهوم في الدول الديمقراطية، وتقابل باحترام ولكنها لا تعفي من المساءلة والملاحقة القضائية. ويحتاج أمر شيوعها كثقافة إلى حاضنة شعبية تتفهمها، من الرجال يعتقدون أن ذاتهم اعظم من كراسي الحكم، وأن لا وجود لأية انواع من اللواصق والمثبتات بينهم وبين الكراسي التي يجلسون عليها، وان استقالاتهم تعني لهم اشياء اكبر وأعز من بقائهم في المنصب.
فالشخص المسؤول تجده ملتزماً تجاه أمته بتقديم كل ما يستــطيع لضمان عدم حدوث خلل من جانبه قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بمواطنــيه، وإذا أحس في أي لحظة بعجزه أو فشله في تحقيــق ذلك تنحـى عن منصبه. وهنا تذكرت بعض الكوارث التي حدثت في مجتمعنا الرياضي، والأخطاء الفادحة التي كانت كفيلة باستقالة بلد برمته وليس بمجرد وزير! فلماذا لا نحاول تثقيف أنفسنا وترويضها على ثقافة الاستقالة بدلاً عن الإقالة؟
مشكلتنا الأزلية تكمن في أن الوزير، المسؤول أو المدير....الخ على اعتقاد تام ودائم بأنه لم يقصر في شيء.
وتأسيسا على ذلك أتساءل : ألم يحن الوقت لكي يرحل وزراؤنا من تلقاء أنفسهم بعد أن فشلوا في إدارة الدولة ؟ أم أن رحيلهم مرتبط بقرار من رأس الدولة، ليجبرهم على مغادرة كراسيهم غير مأسوف عليهم ؟
هل ستبقى ثقافة العظمة والنظرة الدونية للغير التي يتسلح بها مسؤولينا هي السائدة؟ متى سيأتي اليوم الذي نعترف فيه بأخطائنا ونتحمل المسؤولية بكل معانيها؟ الوظيفة أو المنصب تكليف قبل أن تكون تشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" سنحاسب على كل صغيرة وكبيرة اين نحن من عمر بن الخطاب حين قال "والله لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لما لم تصلح لها الطريق يا عمر؟".
هل ستهب علينا رياح ثقافة الاستقالة، ونتخلص من الإقالة التى بطعم الاستقالة؟ سؤال أتمنى له إجابة فى القريب بإذن الله.